قبول الرئيس الغامبي المهزوم في الانتخابات المنقلب على نتايجها بمغادرة السلطة بعد انقلابه عليها بهذه السلاسة تدل اولا: على صدق موقفه عند اعلان النتائج وثانيا على انه لم يكن يرغب في خيار الالتفاف على النتائج لو لم يتبين له انه يواجه حتمية العقوبة والانتقام، وهو ما جعل كثيرا من الحكام يفكر اما في طريقة تخلده في السلطة او اخرى تعيده او احد منظومته الحاكمة باي ثمن حتى يضمن خروجه باقل خسارة شخصية ممكنة شانه شان رجال نظامه بالكامل، لكن أغلبية هذه الشعوب المتململة - للأسف - لم تكن على قدر من النضج يجعلها تتفهم هذه القضية بسرعة، وتستوعب صعوبة الملاحقة وخطورة الانتقام وقيمة العفو المؤدية الى تجنب الارتكاس والوقوع في الأسوأ ولنا نماذج في بعض البلدان التي اجتاحتها عاصفة الصيف العربي.
وفِي هذه الحالات تندر الحكمة والتعقل والانصاف ليحل محلهما الطيش والتهور والتعنت والعنتريات من قبل الخصوم السياسيين للمطاح به، فتقشعر جلود المغرورين بشعارات الحرية والعدالة من طرف الساسة، الذين سرعان ما ينشغلون عن لُب هذه الشعارات وتجسيدها على ارض الواقع وتحقيق أولوياتها في تصفية الحسابات السياسية، الهاء لأولئك الحالمين بواقع أفضل المتحمسين لِغَد اجمل، فتتعالى الصيحات حماسا لهزيمة قد تكون حكمة او فضيلة حبى الله بها المنهزم، حين يجنب الناس نتايج الحرب الوخيمة و ويلاتها المحققة.
ان الاستجابة للصلح هنا شجاعة لا جبن، فضيلة لا رذيلة وتجنب الحرب وإراقة الدماء اكبر مكسب يمكن ان يتحقق للمنطقة برمتها، بغض النظر عن الحسابات السياسية الضيقة والأجندة الإقليمية المعقدة، اذ لا وجود معتبر لمكاسب الصراع والرهان على تلك لأجندة في ظل الاحتراب المودي الى رهانات الدفاع عنها - ان لم يكن خسرانها - بدل اكتسابها ومواصلة العمل على تحقيقها وتكريسها.
ولذلك اعتبر تنازل يحيى جامع عن السلطة بعد إجباره على الانقلاب عليها تحت ضغوط هاجس الانتقام اعتبره فضيلة مثل فضيلة إعلانه المبكر بقبول نتايج الانتخابات، مع انه لا يضمن تجاوز سلبيات التوتر الحالي، خصوصا بعد بروز الدور السنغالي ومساعيه الواضحة في التخلص من رجل حصد نسبة 40% بقيت ولم ترحل معه.
كما اعتقد ان دخول موريتانيا على الخط وتقديم تنازلاتها لصالح الموقف السنغالي المتصلب - ان لم اقل المتعصب او المتعنت - يعتبر حكمة بالغة يمكن ان تحقق في ظل نتايجها ما لم تحققه تحت نيران الحرب وفوق اشلاء البشر وبين ركام البيوت، ونامل ان تكون بداية يتذوق الرئيس محمد ولد عبد العزيز ومعارضته من خلالها تقديم التنازلات الكبيرة والنبيلة من اجل إنقاذ الوطن، عبر تنظيم حوار يشمل جميع مكونات الطيف السياسي في البلد على تنافرها، واختلاف مساعيها، استجابة لحاجتنا الخاصة للكثير من الاستقرار وتجاوز العقبات والمطبات الخاصة بِنَا، اذ لا سبيل لمواجهة الخطر الذي قد يلحق بصالحنا في غامبيا وغيرها الا بتماسك جبهتنا الداخلية، وحل مشاكلنا البينية.
وعلى اية حال يبقى الامر مكسبا للمنطقة برمتها وفضلا يحسب لكل من موريتانيا وغينيا كوناكري ورصيدا ينضاف لدبلوماسيتهما، كما انه مكسب هام للرئيس المغادر يحيى جامع الذي سيؤمنه من هاجس الملاحقة والانتقام الذي يربك الكثير من الراغبين في مغادرة السلطة بطريقة سلمية.